الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال ابن عاشور: {إنَّمَا يُؤْمنُ بآيَاتنَا الَّذينَ إذَا ذُكّرُوا بهَا خَرُّوا سُجَّدًا}.استئناف ناشىء عن قوله: {أم يقولون افتراه الآية} [السجدة: 3]، تفرغ المقام له بعد أن أنحى بالتقريع والوعيد للكافرين على كفرهم بلقاء الله، بما أفادت اسمية جملة {بل هم بلقاء ربهم كافرون} [السجدة: 10] من أنهم ثابتون على الكفر بلقاء الله دائمون عليه، وهو مما أنذرتهم به آيات القرآن، فالتكذيب بلقاء الله تكذيب بما جاء به القرآن فهم لا يؤمنون، وإنما يؤمن بآيات الله الذين ذُكرت أوصافهم هنا.والمراد بالآيات هنا آيات القرآن بقرينة قوله: {الذين إذا ذُكّروا بها} بتشديد الكاف، أي أعيد ذكرها عليهم وتكررت تلاوتها على مسامعهم.ومفاد {إنما} قصر إضافي، أي يؤمن بآيات الله الذين إذا ذكروا بها تذكيرًا بما سبق لهم سماعه لم يتريّثوا عن إظهار الخضوع لله دون الذين قالوا {أإذَا ضَلَلْنَا في الأرض إنَّا لفي خلق جديد} [السجدة: 10]، وهذا تأييس للنبيء صلى الله عليه وسلم من إيمانهم، وتعريض بهم بأنهم لا ينفعون المسلمين بإيمانهم ولا يغيظونهم بالتصلب في الكفر.وأوثرت صيغة المضارع في {إنما يؤمن} لما تشعر به من أنهم يتجدّدون في الإيمان ويزدادون يقينًا وقتًا فوقتًا، كما تقدم في قوله تعالى: {الله يستهزىء بهم} في سورة البقرة (15)، وإلاَّ فإن المؤمنين قد حصل إيمانهم فيما مضى ففعل المضي آثرُ بحكاية حالهم في الكلام المتداوَل لولا هذه الخصوصية، ولهذا عُرّفوا بالموصولية والصلة الدالّ معناها على أنهم راسخون في الإيمان، فعبر عن إبلاغهم آيات القرآن وتلاوتها على أسماعهم بالتذكير المقتضي أن ما تتضمنه الآيات حقائق مقررة عندهم لا يُفادون بها فائدة لم تكن حاصلة في نفوسهم ولكنها تكسبهم تذكيرًا {فإن الذكرى تنفع المؤمنين} [الذاريات: 55].وهذه الصفة التي تضمنتها الصلة هي حالهم التي عُرفوا بها لقوة إيمانهم وتميزوا بها عن الذين كفروا، وليست تقتضي أن من لم يسْجدوا عند سماع الآيات ولم يسبّحوا بحمد ربّهم من المؤمنين ليسوا ممّن يؤمنون، ولكن هذه حالة أكمل الإيمان وهي حالة المؤمنين مع النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ عرفوا بها، وهذا كما تقول للسائل عن علماء البلد: هم الذين يلبسون عمائم صفتها كذا.جاء في ترجمة مالك بن أنس أنه ما أفتى حتى أجازه سبعون محنَّكًا، أي عالمًا يجعل شُقة من عمامته تحت حنكه وهي لبسة أهل الفقه والحديث.قال مالك رحمه الله: قلت لأُمي: أذهبُ فأكتبُ العلم، فقالت: تعالَ فالبسْ ثياب العلم.فألبستني ثيابًا مشمّرة ووضعت الطويلة على رأسي وعممتني فوقها.والخرور: الهُويّ من علوّ إلى سفل.والسجود: وضع الجبهة على الأرض إرادة التعظيم والخضوع.وانتصب {سُجدًا} على الحال المبينة للقصد من {خرُّوا} أي: سجدًا لله وشكرًا له على ما حبَاهم به من العلم والإيمان كما دل عليه قرنه بقوله: {وسبَّحوا بحمد ربهم} والباء فيه للملابسة وتقدم في سورة الإسراء (107): {إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يُتلى عليهم يخرّون للأذقان سجدًا} ودلّت الجملة الشرطية على اتصال تعلق حصول الجواب بحصول الشرط وتلازمهما.وجيء في نفي التكبر عنهم بالمسند الفعلي لإفادة اختصاصهم بذلك، أي دون المشركين الذين كان الكبر خلقهم فهم لا يرضون لأنفسهم بالانقياد للنبيء منهم وقالوا: {لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربّنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوًا كبيرًا} [الفرقان: 21].وقوله تعالى: {وهم لا يستكبرون} موضع سجدة من سجدات تلاوة القرآن رجاء أن يكون التالي من أولئك الذين أثنى الله عليهم بأنهم إذا ذُكّروا بآيات الله سجدوا، فالقارىء يقتدي بهم.وجملة {تتجافى جنوبهم} حال من الموصول، أي: الذين إذا ذُكّروا بها خرّوا ومَن حالهم تتجافى جنوبهم عن المضاجع، أو استئناف.وجيء فيها بالمضارع لإفادة تكرر ذلك وتجدده منهم في أجزاء كثيرة من الأوقات المعدة لاضطجاع وهي الأوقات التي الشأن فيها النوم.والتجافي: التباعد والمتاركة.والمعنى: أن تجافي جنوبهم عن المضاجع يتكرر في الليلة الواحدة، أي: يكثرون السهر بقيام الليل والدعاء لله؛ وقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بصلاة الرجل في جوف الليل، كما سيأتي في حديث معاذ عند الترمذي.و{المضاجع} الفرش جمع مضجع وهو مكان الضجع أي: الاستلقاء للراحة والنوم.وأل فيه عوض عن المضاف إليه أي عن مضاجعهم كقوله تعالى: {فإن الجنة هي المأوى} [النازعات: 41].وهذا تعريض بالمشركين إذ يمضون ليلهم بالنوم لا يصرفه عنهم تفكر بل يسقطون كما تسقط الأنعام.وقد صرح بهذا المعنى عبد الله بن رواحة بقوله يصف النبي صلى الله عليه وسلم وهو سيد أصحاب هذا الشأن:وجملة {يدعون ربهم} يجوز أن تكون حالًا من ضمير {جنوبهم} والأحسن أن تجعل بدل اشتمال من جملة {تتجافى جنوبهم}.وانتصب: {خوفًا وطمعًا} على الحال بتأويل خائفين وطامعين، أي: من غضبه وطمعًا في رضاه وثوابه، أي هاتان صفتان لهم.ويجوز أن ينتصبا على المفعول لأجله، أي لأجل الخوف من ربهم والطمع في رحمته.ولما ذكر إيثارهم التقرب إلى الله على حظوظ لذاتهم الجسدية ذكر معه إيثارهم إياه على ما به نوال لَذات أخرى وهو المال إذ ينفقون منه ما لو أبقوه لكان مجلبة راحة لهم فقال: {ومما رزقناهم ينفقون} أي: يتصدقون به ولو أيسر أغنياؤهم فقراءهم.ثم عظم الله جزاءهم إذ قال: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين}، أي: لا تبلغ نفس من أهل الدنيا معرفة ما أعد الله لهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: «أعددت لعبادي الصالحين ما لاَ عينٌ رأت ولا أذن سمعتْ ولا خَطر على قلب بشر» فدلّ على أن المراد ب {نفس} في هذه الآية أصحاب النفوس البشرية.فإن مدركات العقول منتهية إلى ما تدركه الأبصار من المرئيات من الجمال والزينة، وما تدركه الأسماع من محاسن الأقوال ومحامدها ومحاسن النغمات، وإلى ما تبلغ إليه المتخيلات من هيئات يركّبها الخيال من مجموع ما يعهده من المرئيات والمسمُوعات مثل الأنهار من عسل أو خمر أو لبن، ومثل القصور والقباب من اللؤلؤ، ومثل الأشجار من زبرجد، والأزهار من ياقوت، وتراب من مسك وعنبر، فكل ذلك قليل في جانب ما أعدّ لهم في الجنة من هذه الموصوفات ولا تبلغه صفات الواصفين لأن منتهى الصفة محصور فيما تنتهي إليه دلالات اللغات مما يخطر على قلوب البشر فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ولا خطر على قلب بشر» وهذا كقولهم في تعظيم شيء: هذا لا يعلمه إلا الله.قال الشاعر: وعُبر عن تلك النعم ب {مَا أُخفيَ} لأنها مغيبة لا تدرك إلا في عالم الخلود.وقرة الأعين: كناية عن المسرة كما تقدم في قوله تعالى: {وقرّي عينًا} في سورة مريم (26).وقرأ الجمهور {أُخفيَ} بفتح الياء بصيغة الماضي المبني للمجهول.وقرأ حمزة ويعقوب {أُخْفي} بصيغة المضارع المفتتح بهمزة المتكلم والياء ساكنة، و{جزاء} منصوب على الحال من {ما أخفي لهم} وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم أنه جزاء على هذه الأعمال الصالحات في حديث أغرّ رواه الترمذي عن معاذ بن جبل قال: قلت يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار قال: «لقد سألتَ عن عظيم وإنه ليسير على من يَسَّره الله عليه: تَعبُدُ الله لا تشركُ به شيئًا وتقيمُ الصلاة وتؤتي الزكاة وتصومُ رمضان وتحجُّ البيت» ثم قال: «ألا أدلك على أبواب الخير: الصومُ جُنة والصدقة تطفىء الخطايا كما يُطفىء الماء النارَ وصلاة الرجل في جوف الليل ثم تلا {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} حتى بلغ {يعملون}» الحديث. اهـ. .قال الشعراوي: {إنَّمَا يُؤْمنُ بآيَاتنَا الَّذينَ إذَا ذُكّرُوا بهَا خَرُّوا سُجَّدًا}.الخرور: السقوط بغير نظام ولا ترتيب، كما جاء في قوله تعالى: {فَخَرَّ عَلَيْهمُ السقف من فَوْقهمْ} [النحل: 26] وفي موضع آخر قال سبحانه في هذا المعنى: {إنَّ الذين أُوتُوا العلم من قَبْله} [الإسراء: 107] أي: من قبل القرآن {إذَا يتلى عَلَيْهمْ يَخرُّونَ للأَذْقَان سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبّنَآ إن كَانَ وَعْدُ رَبّنَا لَمَفْعُولًا} [الإسراء: 107-108].فالخرور أنْ تهوي إلى الأرض ساجدًا دون تفكير، وكل سجود في القرآن يتلو هذه المادة خرَّ دليل على أنها أصبحتْ مَلَكة وآلية في المؤمن، بل ويؤكدها الحق سبحانه بقوله: {يَخرُّونَ للأَذْقَان سُجَّدًا} [الإسراء: 107] لأنه سجود يأخذ الذقن، فهو متمكن في الذلّة، وهو فوق السجود الذي نعرفه في الصلاة على الأعضاء السبعة المعروفة.ولم يُذكر الخرور مع الركوع إلا في موضع واحد، هو قوله تعالى في شأن داود: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فاستغفر رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكعًا وَأَنَابَ} [ص: 24].وفي موضع آخر قال سبحانه: {وَيَخرُّونَ للأَذْقَان يَبْكُونَ وَيَزيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 109] فكلما ازدادوا ذلَّة ازدادوا خشوعًا، فكأنهم عشقوا التكليف، وأحبوا أوامر الله؛ لذلك بالغوا في الذلة والعبودية لله تعالى، وهذه المسألة تفسر لنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا من الدعاء».ففي السجود تضع وجهك وجبهتك، وهي رمز العلو والرّفْعة تضعها على الأرض خضوعًا لله عز وجل.ثم يقول الحق سبحانه عنهم: {تتجافى جُنُوبُهُمْ عَن}.التجافي يعني الترك، لكن الترك قد يكون معه شوق ويصاحبه ألم، كما تودع حبيبًا وتتركه وأنت غير زاهد فيه ولا قَالٍ له، أما الجفوة فترك فيه كراهية للمتروك، فهؤلاء الؤمنون الذين يتركون مضاجعهم كأن جنوبهم تكره المضجع وتجفوه؛ لأنها تتركه إلى لذة أبقى وأعظم هي لذة الاتصال بالله ومناجاته.ونذكر هنا إن الإمام عليًا رضي الله عنه حينما ذهب ليدفن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها وقف عند قبر رسول الله وقال: السلام عليك يا سيدي يا رسول الله، قَلَّ عن صفيتك صبري، ورقَّ عنها تجلُّدي، إلا أن لي في التعزي بعظيم فُرْقتك وفادح مصيبتك موضع تأسٍّ- يعني: الذي تحمَّل فَقْدك يا رسول الله يهون عليه أيُّ فَقْد بعدك- فلقد وسدتُك يا رسول الله في ملحودة قبرك، وفاضت بين سَحْري ونَحْري نفسك، أما ليلي فمُسهَّد، وأما حزني فَسَرْمَد، إلى أنْ يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم، هذا وستخبرك ابنتك عن حال أمتك وتضافرها على هضمها. فَأصْغها السؤال، واستخبرها الحال، هذا ولم يَطلُّ منك العهد، ولم يخْلُ منك الذكر.
|